كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم قال: {ظلمات بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} كما قال للمؤمن: {نُّورٌ على نُورٍ} فيكون للكافر ظلمة على ظلمة، قوله ظلمة، وعمله ظلمة، واعتقاده ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة ومصيره إلى الظلمة، وهو النار.
ويقال: شبه قلب الكافر بالبحر العميق، وشبه أعضاءه بالأمواج الثلاث، طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، فهذه الظلمات الثلاث تمنعه عن الحق.
ثم قال: {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} يعني: لم يكن أقرب إليه من نفسه، فإذا أبرز يده لم يكد يراها من شدة الظلمة، ومع ذلك لم ير نفسه، فكذلك الكافر لم ينظر إلى القبر ولم يتفكر في أمر نفسه أيضًا، كقوله عز وجل: {وفى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21].
ثم قال: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} يعني: من لم يكرمه الله بالهدى فما له من مكرم بالمعرفة.
قرأ ابن كثير {ظلمات} بكسر التاء والتنوين، فكأنه يجعله بمنزلة قوله كظلمات.
وقرأ الباقون بالضم على معنى الابتداء.
وقرىء في الشاذ: سحاب ظلمات، على معنى الإضافة.
قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُسَبّحُ لَهُ} يعني: يصلي له ويذكر له.
ويقال: يخضع له.
{مَن في السموات والأرض} أي من في السموات من الملائكة، ومن في الأرض من الخلق.
{والطير صافات} يعني: مفتوحة الأجنحة.
وأصل الصّفّ هو البسط، ولهذا يُسمى اللحم القديد صفيفًا لأنه يبسط {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ والله عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} يعني: كل واحد من المسبحين يعلم كيف يصلي، وكيف يسبح، يعني: والله يعلم عمل كل عامل، فيجازيهم بأعمالهم، إلا أنه لا يعجل بعقوبة المذنبين والكافرين، لأنه قادر عليهم.
قوله تعالى: {وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض} وهذا معنى قوله وَلِلَّهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قال مجاهد في قوله: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} الصلاة للإنسان والتسبيح لما سوى ذلك من خلقه، ثم قال: {وإلى الله المصير} يعني: إليه المرجع في الآخرة.
قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِى سَحَابًا} يعني: يسوق سحابًا {ثُمَّ يُؤَلّفُ بَيْنَهُ} يعني: يجمع بينه {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا} يعني: قطعًا قطعًا، ويقال: يجعل بعضها فوق بعض.
{فَتَرَى الودق} يعني: المطر {يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} يعني: من وسط السحاب.
قرأ ابن عباس: يخرج من خلله وقراءة العامة {مِنْ خِلاَلِهِ} وهي جمع خلل.
{وَيُنَزّلُ مِنَ السماء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ} يعني: من جبال في السماء.
قال مقاتل: روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: جبال السماء أكثر من جبال الأرض، فيها من برد أي في الجبال من برد، ويقال: وهو الجبال من البرد، أي: ينزل من السماء من جبال البرد.
وروي عن ابن عباس أنه قال: البرد هو الثلج، وما رأيته.
ويقال: الجبال عبارة عن الكثرة، يعني: ينزل الثلج مقدار الجبال، كما يقال: عند فلان جبال من مال، أي: مقدار جبال من كثرته.
ويقال البرد هو الذي له صلابة كهيئة الجمد {فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء} يعني: البرد، يصيب الزرع والإنسان إذا كان في مفازة.
قوله: {وَيَصْرِفُهُ مَا يَشَاء} فلا يصيبه، ويقال: يصيب به، يعني: يعذب به من يشاء، ويصرفه عمن يشاء فلا يعذبه.
قوله: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} يعني: ضوء برقه.
{يَذْهَبُ بالابصار} يعني: من شدة نوره.
قرأ أبو جعفر المدني: يذهب، بضمِّ الياء وكسر الهاء، وقراءة العامة يذهب بنصب الياء والهاء.
ثم قال: {يُقَلّبُ الله الليل والنهار} يعني: يذهب الله بالليل ويجيء بالنهار، ويقال ينقص من النهار، ويزيد من الليل.
{إِنَّ في ذَلِكَ} يعني: في تقلبهما، واختلاف ألوانهما {لَعِبْرَةً} يعني: لآية {لاِوْلِى الابصار} يعني: لذوي العقول والفهم في الدين.
وسئل سعيد بن المسيب: أي العبادة أفضل؟ فقال: التفكير في خلقه والتَّفَقُّه في دينه.
ويقال العِبَرُ بِالوِقَارِ، وَالْمُعْتَبِرُ بِمِثْقَالٍ.
ثم قال:
قوله عز وجل: {والله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مّن مَّاء} يعني: من ماء الذكور.
قرأ حمزة والكسائي {خالق كُلّ دَابَّةٍ} على معنى الإضافة.
وقرأ الباقون {خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ} على معنى فعل الماضي، ويقال هذا معطوف على ما سبق.
{يَهْدِى الله لِنُورِهِ مَن يَشَاء} فكأنَّه يقول: يهدي من يشاء ويضلُّ من يشاء كما أنه يخلق ما يشاء من الخلق ألوانًا.
ثم وصف الخلق فقال تعالى: {فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى على بَطْنِهِ} مثل الحية ونحو ذلك فإن قيل لا يقال للدواب منهم، وإن هذا اللفظ يستعمل للعقلاء، قيل له: الدابة اسم عام وهو يقع على ذي روح، فيقع ذلك على العقلاء وغيرهم، فإذا كان هذا اللفظ يقع على العقلاء وغيرهم فذكر بلفظ العقلاء، ولو قال: فمنه كان جائزًا، وينصرف إلى قوله كل، ولكنه لم يقرأ، وإنما قال: يمشي على وَجْهِ المجاز، وإن كان حقيقته المشي بالرِّجل، لأنه جمعه مع الذي يمشي على وجه التبع.
ثم قال: {وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِى على رِجْلَيْنِ} مثل الإنسان ونحوه {وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى على أَرْبَعٍ} أي على أربع قوائم مثل الدوابّ وأشباهها، فإن قيل: إيش الحكمة في خلق كل شيء من الماء؟ قيل له: لأن الخلق من الماء أعجب، لأنه ليس شيء من الأشياء أشدّ طوعًا من الماء، لأن الإنسان لو أراد أن يمسكه بيده، أو أراد أن يبني عليه، أو يتخذ منه شيئًا لا يمكنه، والناس يتخذون من سائر الأشياء أنواع الأشياء، قيل: فالله تعالى أخبر أنه يخلق الماء ألوانًا من الخلق، وهو قادر على كل شيء.
ثم قال: {يَخْلُقُ الله مَا يَشَاء} يعني: كما يشاء، وكيف يشاء {إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء} من الخلق وخلقه {قَدِيرٌ} أي قادر.
قوله عز وجل: {لَّقَدْ أَنزَلْنَا ءايات مبينات} قرأ أبو عمرو وعاصم ونافع وابن كثير وأبو بكر: {مبينات} بنصب الياء في جميع القرآن، يعني: مفصلات.
وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر {مبينات} بكسر الياء، يعني: يبين للناس دينهم.
{والله يَهْدِى مَن يَشَاء} أي يرشد من كان أهلًا لذلك {إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} يعني: دين مستقيم وهو دين الإسلام.
قوله عز وجل: {وَيِقُولُونَ امَنَّا بالله وبالرسول} قال مقاتل نزلت في شأن بشر المنافق وذلك أن رجلًا من اليهود كانت بينه وبين خصومة، وأن اليهودي دعا بشرًا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال بشر، نتحاكم إلى كعب بن الأشرف، فإنَّ محمدًا يحيف علينا فنزل: {وَإِذَا دُعُواْ إِلَى الله وَرَسُولِهِ} وقال في رواية أخرى: كان عثمان بن عفان رضي الله عنه اشترى أرضًا من عليّ، فَنَدَّمَهُ قومه، وقالوا: عمدت إلى أرض سَبْخَةٍ لا ينالها الماء فاشتريتها: رُدَّها عليه، فقال: قد ابتعتها منه، فقالوا: ردها، فلم يزالوا به حتى أتاه فقال: اقبض مني أرضك، فإني قد اشتريتها، ولم أرضها لأنه لا ينالها الماء، فقال له عليّ رضي الله عنه: بل اشتريتها ورضيتها وقبضتها مني، وأنت تعرفها، وتعلم ما هي، فلا أقبلها منك.
قال: فدعا عليٌّ عثمان رضي الله عنهما أن يخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال قوم عثمان: لا تخاصمه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإن أنت خاصمته إليه قَضَى له عليك، وهو ابن عمه، وأكرم عليه منك، ثم اختصما إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقضى لعليّ على عثمان، فنزل في قوم عثمان {وَيِقُولُونَ امَنَّا بالله وبالرسول} {وَأَطَعْنَا} يعني: صدقنا بالله وبالرسول، وأطعنا.
{ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مّنْهُمْ} أي يعرض عن طاعتهما طائفة منهم {مِن بَعْدِ ذلك} الإقرار {وَمَا أُوْلَئِكَ بالمؤمنين} يعني: بمصدقين.
قال بعضهم: هذا التفسير الذي ذكره الكلبي غير صحيح، لأن قوم عثمان إن كانوا مؤمنين من الذين هاجروا معه إلى المدينة، وقد ذكر أنهم ليسوا بمؤمنين.
وقال بعضهم هو الصحيح لأن قوم عثمان بعضهم منافقون مبغضون لبني هاشم لعداوة كانت بينهم في الجاهلية، وكان عثمان يميل إلى قرابته، ولا يعرف نفاقهم.
ويقال: {وَمَا أُوْلَئِكَ بالمؤمنين} يعني: ليس عملهم عمل المؤمنين المخلصين.
ثم قال عز وجل: {وَإِذَا دُعُواْ إِلَى الله وَرَسُولِهِ} يعني: إلى حكم الله ورسوله ويقال: إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم {لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} يعني: ليقضي بينهم بالقرآن {إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ} يعني: طائفة منهم معرضون عن طاعة الله ورسوله.
قوله عز وجل: {وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الحق} يعني: القضاء {يَأْتُواْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} يعني: خاضعين، مسرعين، طائعين قال الزجاج: الإذعان الإسراع مع الطاعة.
ثم قال: {أَفِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} أي: شك ونفاق {أَمِ ارتابوا} يعني: شكوا في القرآن {أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ الله عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} يعني: يجور الله عليهم ورسوله.
قال بعضهم: اللفظ لفظ الاستفهام، والمراد به الإفهام، فكأن الله تعالى يعلمنا بأن في قلوبهم مرضًا، وأنهم شكوا.
ويقال في قلوبهم مرض، يعني: بل في قلوبهم مرض أم {ارتابوا} بل شكوا ونافقوا.
ثم قال تعالى: {بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون} يعني: هم الظالمون لا النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال عز وجل: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين} يعني: المصدقين {إِذَا دُعُواْ إِلَى الله وَرَسُولِهِ} يعني: إلى كتاب الله ورسوله يعني: أمر رسوله {لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} يعني: ليقضي بينهم بالقرآن {أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} أي: سمعنا قول النبي صلى الله عليه وسلم وأطعنا أمره، فإن فعلوا ذلك {وأولئك هُمُ المفلحون} يعني: الناجون الفائزون.
ثم قال عز وجل: {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ} يعني: يطع الله في الفرائض، ويطع الرسول في السنن.
{وَيَخْشَ الله} فيما مضى {وَيَتَّقْهِ} فيما يستقبل {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفائزون} أي الناجون.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ} فيوحده، ورسوله فيصدقه بالرسالة، ويخشَ الله فيما مضى من ذنوبه، ويتقه فيما بقي من عمره، فأولئك هم الفائزون، يعني: الناجون من العذاب آمنون عند سكرات الموت.
قال: فلما نزلت هذه الآية أقبل، عثمان إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله إن شئت لأخرجن من أرضي ولأدفعنها إليه، وحلف على ذلك، فمدحه الله عز وجل بذلك فقال عز وجل: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم}. اهـ.